اعترافات
للملح قيمة
من المفارقات العجيبة في سوريا هي ان تصل الى مؤتمر عام على مستوى القطر لنقابات العمال خلال اشهر وانت لا تفقه دور النقابات او تملك حقيبة من الخبرات في هذا المجال . يكفي ان تكون عدد وشكلا بدون فعالية لان هذا هو المطلوب فقط واجهة امام العالم لإظهار نضال العمال في البلد الممانع والمقاوم .
في الثمانينات وفي عمر الاندفاع والحماس والجرأة ترشحت الى احدى نقابات البلاد كوني موظفة في القطاع العام ، وبما ان القطاع النسائي لم يكن ممثلا حصدت على أصوات عالية جدا في الانتخابات . وطبعا فرحة عارمة بالنصر وعلى من لم اعرف ولكن الاحتفاء بي يومها كان كبيرا . أخذني الحماس بالعمل ولكن بدون اي فهم ماذا سأفعل فانا لم اقرء شيئا ولم اخضع الى اي تدريب ولم يهتم احد بان يكون لي علم بهذا العمل . كانو يريدون عنصرا نسائيا يزين الواجهة . حضرت اجتماعات وقمت بزيارات لمراكز العمل واستمعت الى مشاكل العمال ومازلت لم احصل على قدر من المعرفة بالعمل النقابي ، على مايبدو كانوا مستعجلين لتنسيبي دون اي تدريب او بحث عن خلفيتي السياسية. توقعوا اني سأفهم هكذا بدون اي دراسة وقراءة عن هذا العمل .
لم تكن لي خلفية سياسية ناضجة بعد ولكني كنت شبابية ذا هوى يساري غير مرغوب فيه ، وعندما اعود وأتذكر سلسلة الحوارات التي كانت تحدث للبحث عن هوية لي يضحكني ، فالبعثيون لم يجدو لي في سجلاتهم اي رقم والناصريون كانو يرونني اني لست عربية اما البكداشيون فهم قد تولو محاولات البحث عن اي تياريساري انتمي اليه . طبعا لم ينجحوا ، وتوصلوا في النهاية الى اني من المستقلين . عضوة مستقلة وهذه الكلمة تعرفت عليها لأول مرة في تاريخي ، تصنيفي كان عضوة نقابية مستقلة غير معروفة التوجه السياسي ولست مدعومة الا باصوات الناخبين .
وخلال اشهر وصلت الى المؤتمر العام .( شغلة كبيرة مين بيقدر يوصل الى المؤتمر العام )وحضرنا المؤتمر الذي كنت اصغر عضوة مشاركة فيه وايضاً بدون اي معرفة او خبرة نقابية
والمفاجأة الكبيرة لي ان في ختام المؤتمر تم دعوتنا لعشاء على شرف السيد الرئيس (ابو المعتوه الحالي ) وانا مازلت احتفظ ببطاقة الدعوة المذهبة باسمي ان حضرة الرئيس يدعيني للعشاء (كأني شفت حالي طولي عشرة أمتار وعاملة متل المنارة بين الناس . صرت متميزة اكثر الان سألتقي الرئيس ، لا يكفي نقابية كبيرة و لدي بطاقة باسمي من الرئيس وقلت لحالي خلص رح مشي الشغل على كيفي الان طبعا هيك كان الشعور تبعي وقتها ) في اخر يوم للمؤتمر الذي لم اذكر منه شيئا الا ملاحقات احد اعضاء مجلس الشعب لي....
. ومتل مابيقولو راحت السكرة واجت الفكرة عندما طُلب منا ان نترك كل شيء بايدينا في قاعة المؤتمر وحتى حقائبنا ولا شيء معنا وهنا بدأت الأفكار السوداء ترقص في مخيلتي . هل سنذهب لحتفنا هل سيعتقلونا . هل هي مؤامرة كل هذا المؤتمر . هل هو غير راضي عن نتائج المؤتمر ويالطيف عشرين الف فكرة أتت في راسي وفجاة شعرت بالوحدة الشديدة وكأني بالطريق الى مصير مجهول .
في الممر قبل الصعود الى الباصات التي كانت تنتظرنا في الخارج نظرت الى حذائي الأبيض ولعنت الساعة التي لبسته فيها، لا اعرف لماذا ربما لاني مكشوفة للجميع الان بهذا اللون الناصع كضوء لمبة متحركة ، اول احساس بالقطيع حقا في هذه الحركة ، كرهت المؤتمر والنقابة في لحظتها
عند وصولنا استطيع ان أقول اني كدت اموت من العطش من فرط التوتر والرجال حولي متلاصقين في حركتهم وكانهم ايضا يخفون شيئا ما او يتدافعون للقاء للرئيس
كانت عناصر الأمن متوزعة يشكل كبير في المالكي وكانت اجهزة اللاسلكي واضحة والنشاط الزائد للعناصر ذاد من إحساسي بالرعب وقلت لنفسي سيكتشفون حقا لا انتمي الى هذه المجموعة واني سأقف هناك ولن أردد الهتافات وستكون نهايتي واذا لم اعود للمنزل هذه الليلة ستكون هذه اخر ساعاتي وساكون في خبر كان .
دخلنا الصالة ضوء شديد ربما لم يكن شديدا ولكن الممر كان مظلما في الخارج او ربما انا كنت سوداوية، كانت الارضيّة التي مشيت عليها من الرخام تذهل من جمالها و الاضواء تظهر كل شيء لامع ، وبوفيه طويل عريض بأشكال وألوان يعتقد انها طعام فانا لم أتعرف على هذه الاطباق سابقا ، لحوم أسماك اشياء غريبة ومبالغ في الكميات المصفوفة ، التفت الى القاعة لم يكن هنالك طاولت وكراسي نجلس عليها وانما كان العشاء بوفيه على الواقف يعني ( اها مو متساهلين يقعدو هالعمال على الطاولات ) اما كاسات الشراب فانا اذكرها لرقتها فلم ارى سابقا اي كاس كريستال رقيق كهذا ومصفوفة بشكل جميل . بقيت مع رفاقي من نفس النقابة واقفة مذهولة مكتوفة الايدي انظر الى كل شيء بقرف وشعور عارم بالاقياء وأتساءل هل يرى احد ما ملامح وجهي ويكتشف قرفي وانظر الى هؤلاء الرجال الذين التفوا حول الرئيس الذي لم أرى الا جزء من وجهه الشاحب جدا بين الرؤوس وطبعا كالعادة ذاد من قرفي هؤلاء المهللين البازلين الدماء الرخيصة كرما للرئيس . وكاننا في احدى جلسات مجلس الشعب وكل واحد يمتدح الرئيس
شرع الرجال بالأكل وقوفا ونظر الى رئيس نقابتنا في المحافظة يدعوني لأخذ صحنا فرفضت . ولم أتحرك . وذاد النق والإلحاح ( حسيت كانو أمي تقول لي طيب انا بفرجيكي بس نطلع من هون ) سببت له احراج او خوف على ما اعتقد لرفضي التام للطعام ثم قلت له حسنا سأشرب بعض الماء، واحضر لي تلك الكأس الشفافة والرقيقة وكدت اخاف ان تذوب في يدي او تتكسر من فرط توتري
مضت تلك الساعة وانا بدون قدرة على الكلام وخرجنا من القاعة كالقطيع كما أحضرونا
خرجت وانا أقول الحمدلله ما اكلت وساويت بيني وبينو ملح . وماحدى اكتشف الا الكاميرات بالمكان ، كم كنت ساذجة عندما اعتقدت انه وبأمواله الخاصة قدم لنا الطعام وانا قررت ان لا اجعل للملح قيمة يوما ما بيني وبينه .
وهنا كانت رحلة النهاية للعمل النقابي بالنسبة لي كانت قصيرة فانا تراجعت شيئا فشيئا عن الحضور حتى تركت كل شيء فانا لم احمل معي من تلك المغامرة الا قناعة جديدة ان العمل النقابي في سوريا مسخرة وشكل من أشكال الولاء لرب العمل والقائد . بالاضافة الى اكتشاف مدى الخوف الذي احمله في داخلي من هذا النظام .